فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وقوله: {إن الله سميع عليم} وعيد للمبدل، لأن الله لا يخفى عليه شيء وإن تحيل الناس لإبطال الحقوق بوجوه الحيل وجارُوا بأنواع الجور فالله سميع وصية الموصي ويعلم فعل المبدل، وإذا كان سميعًا عليمًا وهو قادر فلا حائل بينه وبين مجازاة المبدل. والتأكيد بإن ناظر إلى حالة المبدل الحكمية في قوله: {فمن بدله} لأنه في إقدامه على التبديل يكون كمن ينكر أنَّ الله عالم فلذلك أَكِّد له الحكم تنزيلًا له منزلة المنكر. اهـ.

.قال القرطبي:

لا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز؛ مثل: أن يوصي بخمرٍ، أو خنزير، أو شيءٍ من المعاصي، فإنه لا يجوز إمضاؤه، ويجوز تبديله. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)}.
ونحن نعرف أنه في زمن نزول القرآن كانت الوصية شفاهة، ولم تكن الكتابة منتشرة، ولذلك أتى الحق بالجانب المشترك في الموصي والموصي له والوارث وهو جانب القول؛ فقد كان القول هو الأداة الواضحة في ذلك الزمن القديم، ولم تكن هناك وسائل معاصرة كالشهر العقاري لتوثيق الوصية، لذلك كان تبديل وصية الميت إثما على الذي يبدل فيها. إن الموصي قد برئت ذمته، أما ذمة الموصي له والوارث فهي التي تستحق أن تنتبه إلى أن الله يعلم خفايا الصدور وهو السميع العليم.
ويريد الحق أن يصلح العلاقة بين الوارث والموصي له، لذلك يقول الحق: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (182)}. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

.سؤال: لم وضع الظاهر موضع المضمر؟

الجواب: ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على علية التبديل للإثم، وإيثار صيغة الجمع مراعاة لمعنى من، وفيه إشعار بشمول الإثم لجميع الأفراد. اهـ.
قال ابن عرفة: كان بعضهم يفهم فيقول فائدة الحصر أنّ الموصي للفقراء بوصية ثم منعهم منها سلطان ظالم فالأجر ثابت للموصي والإثم خاص بالظالم.
قال: وكذلك أخذ منه بعضهم، أنّ الموصي إذا اعترف بدين عليه وحبسه الوارث عن ربّه فقد برئ الموصي من عهدته وإثمه على المانع. ففي الآية ثلاثة أسئلة:

.- الأول: لم خص الحصر بإنَّما ولم يقل: فإثمه إلا على الذين يبدلونه مع أنه أصرح؟

والجواب أنهم قالوا: إنّ إنما تقتضي ثبوت ما بعدها بخلاف إلاّ فتقتضي وجود الإثم وثبوته.

.- السؤال الثاني: قال: {يبدلونه} بلفظ المضارع ومن بدله بلفظ الماضي؟

والجواب عنه ما أجاب الزمخشري في قوله الله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} وهو أنه لما كان القتل عمدا ممنوعا شرعا عبر عنه بلفظ الماضي والمستقبل إشعارا بكراهيته والتنفير عنه حتى كأنه غير واقع، وكذلك يقال هنا.
قلت: لأنه ذكر لفظ الإثم في الثاني مقرونا بأداة الحصر أتي بالفعل مستقبلا زيادة في التنفير عن موجب الإثم.

.- السؤال الثالث: هلا استغنى على إعادة الظاهر فيقال: فإنما إثمه عليه؟

والجواب عن ذلك! أنه تنبيه على العلة التي لأجلها كان مأثوما وهي التبديل. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)}.
يجوز في مَنْ أن تكون شرطيَّةً وموصولةً، والفاء: إمَّا واجبةٌ، إن كانت شرطًا، وإمَّا جائزةٌ، إن كانت موصولةً، والهاء في {بَدَّلَهُ} يجوز أن تعود على الوصيَّة، وإن كان بلفظ المؤنَّث؛ لأنَّها في معنى المذكَّر، وهو الإيصاء؛ كقوله تعالى: {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةً} [البقرة: 275] أي وعظٌ، أو تعود على نفس الإيصاء المدلول عليه بالوصيَّة، إلاَّ أنَّ اعتبار المذكَّر في المؤنَّث قليلُ، وإن كان مجازيًّا؛ ألا ترى أنه لا فرق بين قولك: هْنْدٌ خَرَجَتْ، والشَّمْسُ طَلَعَتْ، ولا يجوز: الشّمْسُ طَلَعَ كما لا يجوز: هِنْدٌ خَرَجَ إلا في ضرورة.
وقيل: تعود على الأمر، أو الفرض الذي أمر الله به وفرضه.
وقيل: تعود إلى معنى الوصيَّة، وهو قولٌ، أو فعلٌ، وكذلك الضَّمير في {سَمِعَهُ} والضَّمير في {إثْمُهُ} يعود على الإيصاء المبدَّل، أو التَّبديل المفهوم من قوله: {بَدَّلَهُ} وقد راعى المعنى في قوله: {عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ}؛ إذ لو جرى على نسق اللفظ الأول، لقال: {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ}، وقيل: الضَّمير في {بَدَّلَهُ} يعود على الكتب، أو الحَقِّ، أو المعروفِ، فهذه ستَّة أقوال، وما في قوله: {بَعْدَمَا سَمِعَهُ} يجوز أن تكون مصدريَّةً، أي: بعد سماعه، وأن تكون موصولةً بمعنى الذي، فالهاء في {سَمِعَهُ} على الأول تعود على ما عاد عليه الهاء في {بَدَّلَهُ}؛ وعلى الثاني: تعود على الموصول، أي بَعْدَ الَّذي سَمِعَهُ مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (182):

قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما توعد من يبدل الوصية، بين أن المراد بذلك التبديل أن يبدله عن الحق إلى الباطل، أما إذا غيره عن باطل إلى حق على طريق الإصلاح فقد أحسن، وهو المراد من قوله: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} لأن الإصلاح يقتضي ضربًا من التبديل والتغيير فذكر تعالى الفرق بين هذا التبديل وبين ذلك التبديل الأول بأن أوجب الإثم في الأول وأزاله عن الثاني بعد اشتراكهما في كونهما تبديلين وتغييرين، لئلا يقدر أن حكمهما واحد في هذا الباب. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما كان التحذير من التبديل إنما هو في عمل العدل وكان الموصي ربما جار في وصيته لجهل أو غرض تسبب عنه قوله: {فمن خاف} أي علم وتوقع وظن، أطلقه عليه لأنه من أسبابه، ولعله عبر بذلك إشارة إلى أنه يقنع فيه بالظن {من موص جنفًا} أي ميلًا في الوصية خطأ {أو إثمًا} أي ميلًا فيها عمدًا، قال الحرالي: وكان حقيقة معنى الجنف إخفاء حيف في صورة بر. انتهى.
{فأصلح بينهم} أي بين الموصي والموصي لهم إن كان ذلك قبل موته بأن أشار عليه بما طابت به الخواطر، أو بين الموصي لهم والورثة بعد موته إن خيف من وقوع شر فوفق بينهم على أمر يرضونه. وقال الحرالي: وفي إشعاره بذكر الخوف من الموصي ما يشعر أن ذلك في حال حياة الموصي ليس بعد قرار الوصية على جنف بعد الموت، فإن ذلك لا يعرض له مضمون هذا الخطاب، وفي إيقاع الإصلاح على لفظة بين إشعار بأن الإصلاح نائل البين الذي هو وصل ما بينهم فيكون من معنى ما يقوله النحاة مفعول على السعة حيث لم يكن فأصلح بينه وبينهم. انتهى.
{فلا إثم عليه} أي بهذا التبديل. ولما كان المجتهد قد يخطئ فلو أوخذ بخطئه أحجم عن الاجتهاد جزاه الله سبحانه عليه بتعليل رفع الإثم بقوله إعلامًا بتعميم الحكم في كل مجتهد: {إن الله} أي المختص بإحاطة العلم {غفور} أي لمن قصد خيرًا فأخطأ {رحيم} أي يفعل به من الإكرام فعل الراحم بالمرحوم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} تفريع على الحكم الذي تقدمه وهو تحريم التبديل، فكما تفرع عن الأمر بالعدل في الوصية وعيدُ المبدل لها، وتفرع عن وعيد المبدل الإذنُ في تبديلٍ هو من المعروف وهو تبديل الوصية التي فيها جور وحيف بطريقةِ الإصلاح بين الموصَي لهم وبين من ناله الحيف من تلك الوصية بأن كان جديرًا بالإيصاء إليه فتركه الموصي أو كان جديرًا بمقدارٍ فأجحف به الموصي؛ لأن آية الوصية حضرت قسمة تركة الميت في اتباع وصيته وجعلت ذلك موكولًا إلى أمانته بالمعروف، فإذا حاف حيفًا واضحًا وجَنَف عن المعروف أُمِر ولاة الأمور بالصلح. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{خاف} بالإمالة حيث كان: حمزة. {موصٍ} بالتشديد: يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص وجبلة الباقون: بالتخفيف من الإيصاء.

.الوقوف:

{خيرًا} ج لأن قوله: {الوصية} مفعول {كتب} وإنما لم يؤنث الفعل لتقدمه ولاعتراض ظرف وشرط بينهما، أو {الوصية} مبتدأ و{للوالدين} خبره، ومفعول {كتب} محذوف أي كتب عليكم أن توصوا. ثم بين لمن الوصية والوصل أولى لئلا يحتاج إلى الحذف. {بالمعروف} ح لأن التقدير حق ذلك حقًا أو كتب الوصية حقًا. {المتقين} ط وإن كان بعدها فاء التعقيب لأنه حكم آخر {يبدلونه} ط عليم كذلك {عليه} ط {رحيم} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَينَهُم} اختلف المفسرون في تأويل ذلك، على خمسة أقاويل:
أحدها: أن تأويله فمن حضر مريضًا، وهو يوصي عند إشرافه على الموت، فخاف أن يخطئ في وصيته، فيفعل ما ليس له أو أن يتعمد جَوْرًا فيها، فيأمر بما ليس له، فلا حرج على من حضره فسمع ذلك منه، أن يصلح بينه وبين ورثته، بأن يأمره بالعدل في وصيته، وهذا قول مجاهد.
والثاني: أن تأويلها فمن خاف من أوصياء الميت جنفًا في وصيته، فأصلح بين ورثته وبين المُوصَى لهم فيما أُوصِيَ به لهم حتى رد الوصية إلى العدل، فلا إثم عليه، وهذا قول ابن عباس، وقتادة.
والثالث: أن تأويلها فمن خاف من موص جنفًا أو إثمًا في عطيته لورثته عند حضور أجله، فأعطى بعضًا دون بعض، فلا إثم عليه أن يصلح بين ورثته في ذلك، وهذا قول عطاء.
والرابع: أن تأويلها فمن خاف من موصٍ جنفًا، أو إثمًا في وصيته لغير ورثته، بما يرجع نفعه إلى ورثته فأصلح بين ورثته، فلا إثم عليه، وهذا قول طاووس.
والخامس: أن تأويلها فمن خاف من موصٍ لآبائه وأقربائه جنفًا على بعضهم لبعض، فأصلح بين الآباء والأقرباء، فلا إثم عليه، وهذا قول السدي. اهـ.

.قال الطبري:

وأولى الأقوال في تأويل الآية أن يكون تأويلها: فمن خاف من مُوصٍ جَنفًا أو إثمًا وهو أن يميل إلى غير الحق خطأ منه، أو يتعمد إثمًا في وصيته، بأن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه بأكثر مما يجوز له أن يوصي لهم به من ماله، وغير ما أذن الله له به مما جاوز الثلث أو بالثلث كله، وفي المال قلة، وفي الوَرَثة كثرةٌ فلا بأس على من حضره أن يصلح بين الذين يُوصَى لهم، وبين ورثة الميت، وبين الميت، بأن يأمرَ الميت في ذلك بالمعروف ويعرِّفه ما أباح الله له في ذلك وأذن له فيه من الوصية في ماله، وينهاه أن يجاوز في وصيته المعروف الذي قال الله تعالى ذكره في كتابه: {كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف}، وذلك هو الإصلاح الذي قال الله تعالى ذكره: {فأصلح بينهم فلا إثم عليه}. وكذلك لمن كان في المال فَضْل وكثرةٌ وفي الورثة قِلة، فأراد أن يقتصر في وصيته لوالديه وأقربيه عن ثلثه، فأصلح من حَضرَه بينه وبين ورثته وبين والديه وأقربيه الذين يريد أن يوصى لهم، بأن يأمر المريض أن يزيد في وصيته لهم، ويبلغ بها ما رَخّص الله فيه من الثلث. فذلك أيضًا هو من الإصلاح بينهم بالمعروف.
وإنما اخترنا هذا القول، لأن الله تعالى ذكره قال: {فمن خَاف من موص جَنفًا أو إثمًا}، يعني بذلك: فمن خاف من موص أن يَجْنَف أو يَأثم. فخوفُ الجنف والإثم من الموصي، إنما هو كائن قبل وقوع الجنف والإثم، فأما بعد وجوده منه، فلا وجه للخوف منه بأن يَجنف أو يأثم، بل تلك حال مَنْ قد جَنفَ أو أثم، ولوْ كان ذلك معناه لقيل: فمن تبيّن من مُوص جَنفًا أو إثمًا- أو أيقن أو علم- ولم يقل: فمن خَافَ منه جَنفًا.
فإن أشكل ما قلنا من ذلك على بعض الناس فقال: فما وجه الإصلاح حينئذ، والإصلاح إنما يكون بين المختلفين في الشيء؟
قيل: إنّ ذلك وإن كان من معاني الإصلاح، فمن الإصلاح الإصلاحُ بين الفريقين، فيما كان مخوفًا حدوثُ الاختلاف بينهم فيه، بما يؤمن معه حُدوث الاختلاف. لأن الإصلاح، إنما هو الفعل الذي يكون معه إصلاحُ ذات البين، فسواء كان ذلك الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البين- قبلَ وقوع الاختلاف أو بعد وقوعه.
فإن قال قائل: فكيف قيل: {فأصلح بينهم}، ولم يجر للورثة ولا للمختلفين، أو المخوف اختلافهم، ذكرٌ؟
قيل: بل قد جرى ذكر الذين أمر تعالى ذكره بالوصية لهم، وهم والدا المُوصي وأقربوه، والذين أمروا بالوصية في قوله: {كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن تَركَ خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف}، ثم قال تعالى ذكره: {فمن خافَ من مُوص} لمن أمرته بالوصية له {جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم} وبين من أمرته بالوصية له {فلا إثم عليه}. والإصلاح بينه وبينهم، هو إصلاح بينهم وبين ورثة الموصي. اهـ.
سؤال: مات معنى الجنف؟ وما الفرق بينه وبين الإثم؟
الجنف: الميل في الأمور، وأصله العدول عن الاستواء، يقال: جنف يجنف بكسر النون في الماضي، وفتحها في المستقبل، جنفًا، وكذلك: تجانف، ومنه قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] والفرق بين الجنف والإثم أن الجنف هو الخطأ من حيث لا يعلم به والإثم هو العمد. اهـ.
سؤال: ما المراد من الخوف في الآية؟
الجواب: في قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ} قولان: أحدهما: أن المراد منه هو الخوف والخشية.
فإن قيل: الخوف إنما يصح في أمر منتظر، والوصية وقعت فكيف يمكن تعلقها بالخوف.
والجواب من وجوه أحدها: أن المراد أن هذا المصلح إذا شاهد الموصي يوصي فظهرت منه أمارات الجنف الذي هو الميل عن طريقة الحق مع ضرب من الجهالة، أو مع التأويل أو شاهد منه تعمدًا بأن يزيد غير المستحق، أو ينقص المستحق حقه، أو يعدل عن المستحق، فعند ظهور أمارات ذلك وقبل تحقيق الوصية يأخذ في الإصلاح، لأن إصلاح الأمر عند ظهور أمارت فساده وقبل تقرير فساده يكون أسهل، فلذلك علق تعالى بالخوف من دون العلم، فكأن الموصي يقول وقد حضر الوصي والشاهد على وجه المشورة، أريد أن أوصي للأباعد دون الأقارب وأن أزيد فلانًا مع أنه لا يكون مستحقًا للزيادة، أو أنقص فلانًا مع أنه مستحق للزيادة، فعند ذلك يصير السامع خائفًا من حنث وإثم لا قاطعًا عليه، ولذلك قال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا} فعلقه بالخوف الذي هو الظن ولم يعلقه بالعلم.
الوجه الثاني: في الجواب أنه إذا أوصى على الوجه الذي ذكرناه لكنه يجوز أن لا يستمر الموصي على تلك الوصية بل يفسخها ويجوز أن يستمر لأن الموصي ما لم يمت فله الرجوع عن الوصية وتغييرها بالزيادة والنقصان فلما كان كذلك لم يصر الجنف والإثم معلومين، لأن تجويز فسخة يمنع من أن يكون مقطوعًا عليه، فلذلك علقه بالخوف.
الوجه الثالث: في الجواب أن بتقدير أن تستقر الوصية ومات الموصي، فمن ذلك يجوز أن يقع بين الورثة والموصي لهم مصالحة على وجه ترك الميل والخطأ، فلما كان ذلك منتظرًا لم يكن حكم الجنف والإثم ماضيًا مستقرًا، فصح أن يعلقه تعالى بالخوف وزوال اليقين، فهذه الوجوه يمكن أن تذكر في معنى الخوف وإن كان الوجه الأول هو الأقوى.
القول الثاني: في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ} أي فمن علم والخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم وذلك لأن الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولدة من ظن مخصوص وبين العلم وبين الظن مشابهة في أمور كثيرة فلهذا صح إطلاق اسم كل واحد منهما على الآخر، وعلى هذا التأويل يكون معنى الآية أن الميت إذا أخطأ في وصيته أو جار فيها متعمدًا فلا حرج على من علم ذلك أن يغيره ويرده إلى الصلاح بعد موته، وهذا قول ابن عباس وقتادة والربيع.
المسألة الرابعة: قد ذكرنا أن الجنف هو الخطأ والإثم هو العمد ومعلوم أن الخطأ في حق الغير في أنه يجب إبطاله بمنزلة العمد فلا فصل بين الخطأ والعمد في ذلك، فمن هذا الوجه سوى عز وجل بين الأمرين. اهـ.